الثلاثاء، 16 مارس 2010

المكلا - أنثى تخاصر البحر



المدن أشبه بالنساء يحرصن على إخفاء حقيقة أعمارهن، ووحدها المكلا لاتخفي عمرها الذي يمتد مئات السنين. وعبر هذا التاريخ شهدت المكلا أكثر من حاكم وقرصان وطامع شغف بها، لكنها ظلت بمثابة “أرملة عذراء”.

تبدو مدينة المكلا اليمنية بلسانها البحري واسترخائها الطويل على كيلومترات من ساحل “البحر العربي” واستنادها إلى جبل القارة، وكأنها موجة خاصمت البحر فصلبها على الشاطئ أو حورية خرجت لتستحم فعلقت بين الماء واليابسة.

البحر كان أول عاشق سكن المكلا ثم حج العاشقون على اختلاف الأجناس والنوايا. وقبل ذلك كان موقع المدينة ملجأ آمناً للسفن والمراكب الهاربة من غضب رياح الخريف ومكاناً يحفظ فيه الصيادون أدوات الصيد ويستريحون إليه، ولعل في التسميات التي أطلقت على المدينة ما يدل على هذه الوظائف التي أهلها موقعها لها؛ فقد عرفت المدينة في البدء باسم الخيصة وهي تسمية تعني الميناء أو المرسى ثم عرفت بعد ذلك وربما تزامناً مع التسمية السابقة - باسم “المكنة” بتضعيف النون - وهي تسمية تحمل معنى الاحتماء واللجوء، ثم تطورت هذه التسمية لتصبح المكلا اشتقاقاً من الفعل “كلأ” بمعنى حفظ ورعى وهو الاسم الذي حظي بشرف التداول حتى اليوم دوناً عن الاسمين السابقين.

تمتاز المكلا بميناء مفتوح يقع بين خليج فوه ورأس مرباط ورأس مودار ورأس المكلا علاوة على لسان بحري يتوغل في البحر بطول خمسمائة متر وعرض ثلاثمائة متر أشبه بخنجر مغروس في خاصرة البحر، وقد شهد هذا اللسان البحري أول نواة لنشوء المدينة حيث تمركز النشاط التجاري والعمراني عليه في البدء ويقع عليه أعرق حيين “تربة يعقوب وحي العبيد”؛ فالأول نسبة إلى يعقوب باوزير الذي عرج بسفينته إليه عام (1158) بعد أن اشتد عليه المرض مرتحلاً في عرض البحر ولم يكن في المكلا آنذاك سوى بضعة أكواخ يقطنها الصيادون وقد دفن يعقوب باوزير إثر وفاته في الحي المعروف حتى اليوم باسمه، أما حي العبيد فقد أخذ تسميته هذه من كونه كان موقعاً لنشاط تجاري لا إنساني تمثل في تجارة الرقيق وهي تجارة نشطت بفعل الحاجة إلى محاربين تستعين بهم الأطراف المتنازعة في الصراع المحتدم للسيادة على المكلا.

وقد ضرب حول الأحياء الواقعة على اللسان البحري للمكلا سور “سدة” ببوابة واحدة وسميت الأحياء التي أنشئت خارج هذا السور مع اتساع النشاط العمراني بعد ذلك “برع السدة” أي خارج السور، حيث اتسع العمران ليشمل الشريطين الساحليين الواقعين على جانبي اللسان البحري امتدادا إلى منطقة خلف ومنطقة فوه في اتجاهين متقابلين ليكتمل بهذا التوسع مشهد صليب اشترك في رسمه البحر واليابسة تستطيع مشاهدته من علو بوضوح وقد وضع عليه الإنسان بصمته مكملاً ما بدأته ريشة الطبيعة من مشوار في رسم تلك اللوحة البديعة للمكلا..
مدينة عصامية: المباني والبيوت في المكلا تعيش حالة وئام وتجانس لا تستطيع معها التمييز بين قديمها وحديثها وهي تنتصب كصواري السفن قريباً من البحر وتتدرج شيئاً فشيئاً لتنتهي في حضن الجبل، وهي مبنية بشكل عمودي لأن ضيق المساحة الفاصلة بين البحر والجبل لا يسمح بالتوسع الأفقي وربما امتداداً للمعمار الحضرمي الذي يلتهم أقصى ما يمكن التهامه من مسافة بين الأرض والسماء مقلعاً نحو الأعلى. وبالرغم من تباين الأجناس التي استوطنت المكلا إبان نشوئها فإن حالة التجانس الواضحة على العمران لا تكشف عن ذلك التباين كثيراً باستثناء أثر نسبي للمعمار الهندي يطل من تفاصيل دقيقة في المباني والبيوت ما يؤكد غلبة الذوق الحضرمي وعصاميته حيال الأذواق الوافدة التي ذابت في بوتقته.

في قلب المكلا يلفت نظرك بشدة مبنى فخم يتربع بغرور على مساحة رحبة مطلاً على البحر، إنه قصر السلطان (القُعَيْطِي) تِركة من تَرِكات الدولة القُعَيْطِية التي حكمت المكلا مع بداية القرن التاسع عشر وحتى قيام ثورة ،1967 يرجع بناء القصر إلى نحو ثمانين عاماً أي عام ،1922 ويتألف من شقين متفاوتين في التصميم حيث صمم أحدهما بشرفات ونوافذ واسعة مفتوحة على الفضاء والآخر تصميماً شرقياً روعي فيه عدم الانكشاف على المقاصير.

رحب المحضار: عندما واجهتني منطقة (خلف) وهي منطقة تقع في الخلف من المكلا تماماً كما تدل التسمية، تجاوزت فنادق الدرجة الأولى جميعها ورحت أعدو كطفل يسابق ظله ويسبقه، على الساحل الرملي المنبسط على امتداد خرافي، كنت أعدو خلف قصة حب عاشها المحضار في هذا المكان وكان (الهواء يجري حوالي يلف الموج لف) وتحول الجبل الموحش الصلد (من فوقي) بصمته وكهوفه الفاغرة للريح وللبشر الفارين برغائبهم من “التابو” تحول إلى كائن حي له مشاعره وله لغته وله أسراره التي يحرص على كتمانها وعدم الإفشاء بها، استشهدته واستشهدت كهوفه على ما دار بين الشاعر المحضار ومحبوبته؟! ومن هو هذا المحبوب؟! الذي سره “ما انكشف وقضيته ما تحملها ملف” واسمه رباعي الحروف؟! ورغم أن الجبل بكهوفه هو الشاهد الوحيد على قصة الحب تلك إلا أنه أصر على كتمان الشهادة. كما واجهتني “خلف بعد العصر” استدبرتها قبيل الغروب ولا يزال “سر حب المحضار غامضاً لم ينكشف بعد”.

سر السلطان: إذا مات السلطان انقطع خبره إلا من “صوت أو قيد أو مشنقة أو سجن” تذكر ظهور وسيقان ورقاب الرعية به. ومن بين السلاطين الذين حكموا المكلا هناك سلطان واحد شذ على هذه القاعدة وفضل أن يستعبد الناس حياً وميتاً “بالحروف” لا بالسيوف وإن يتذكروه كلما قرأوا كتاباً أو تصفحوا مجلة فأنشأ المكتبة السلطانية الملحقة بالجامع الكبير (جامع سيدي عمر) عام 1941 حيث عرف السلطان صالح بن غالب القُعَيْطِي بشغفه للمعرفة وله مؤلفات في الفقه والتوحيد منها “الآيات البينات على وجود خالق الكائنات، مصادر الأحكام الشرعية”.

ومن غريب أخباره أنه قام بتأليف قصة اجتماعية لفيلم أشرف على تمويله وإخراجه وصور في المكلا وهو فيلم تمضي أحداثه على طريقة الأفلام الهندية من حيث الاستعراض والغناء وينوب الرجال فيه عن النساء في التمثيل، وفي عهده نشطت الحياة الثقافية والاجتماعية وصدرت في المكلا جريدتان “النهضة” 1341ه رأسها الطيب الساسي و”المنبر” 1939 وأنشئ ناد رياضي ثقافي هو نادي الإصلاح في المكلا وكان السلطان صالح القُعَيْطِي على اتصال بالفعاليات والشخصيات الأدبية والثقافية في الوطن العربي الناشطة على عهده وله مراسلات مع (مدرسة الديوان).

وعلاوة على ما تضمه المكتبة السلطانية من كنوز في شتى العلوم ومناحي المعرفة “العلوم الشرعية، الأدب، اللغة، الطب، الكيمياء، السياسة، التصوف” فإنها تحتوي مجموعة نادرة من أمهات الكتب “طبعات قديمة قيمة” ومؤلفات عديدة في السحر والتنجيم والرمل والطوالع الفلكية والجفرية وتفسير الأحلام. أما المخطوطات الأثرية التي كانت ضمن محتويات المكتبة فقد أحيلت الى “مكتبة الأحقاف تريم” خوفاً عليها من الرطوبة وفقاً لما أخبرنا أمين عام المكتبة عبدالله عمر السكوتي.

وتحتفظ المكتبة بإصدارات الصحف والدوريات المحلية والعربية مؤرشفة من الأعداد الأولى لها وحتى اليوم مثل “الثورة”، و”الجمهورية”، و”صباح الخير”، و”آخر ساعة”، و”أخبار اليوم”، و”روز اليوسف”.. وغيرها، علاوة على ما تحتفظ به من صور نادرة لرواد النهضة الأدبية والثقافية العربية والمفكرين “مي زيادة، والعقاد، وطه حسين، والأفغاني، ومحمد عبده، وصلاح عبدالصبور، وجبران، وغيرهم”.

وهذه الصور عبارة عن هدايا كانت ترفق بالدوريات والمجلات الأدبية والثقافية الصادرة في الأربعينات، وهي موزعة بانتظام على أرجاء المكتبة الواسعة.

وبالمناسبة فإن المدخل المؤدي إلى المكتبة يمر عبر سوق النساء محفوفاً بالعطور والبخور وأشياء أخرى ويحدث أحياناً أن يقصد أحدهم المكتبة ليقرأ كتاباً في الحكمة فيجد نفسه هناك ودون وعي يقرأ “مجنون ليلى” ويذهب ليقرأ كتاباً في حياة الشعوب فيقرأ “كتاب حياته”.

تغادر المرأة في المكلا منزلها للتسوق والاستجمام على شواطئ “خلف” والدراسة ومن النادر أن تخرج للعمل، وهي تنفق أنوثتها وحنانها في منزلها وهي تشبه كثيراً “ البيت المكلاوي “ بسيطة عادية غير لافتة في مظهرها الخارجي تغلف جاذبيتها وتأنقها بقشرة قماش باهتة كتومة لا تبوح عنها وهي تعبر الشارع بصمت وهدوء تماماً كطرد بريدي ملغوم لا يسفر عن ما يجيش بداخله إلا بين يدي المرسل إليه.

والرجل في المكلا ذو سمات تنسجم كثيراً مع تلك الطبيعة وإن بدا - أولاً وأخيراً - أنه المهيمن، فهو ينفق من وقته ما يكفي لتلبية شؤون المنزل ويحرص على تناول وجباته والقيلولة فيه ويخزن بنسبة معقولة، أما فائض وقته فيمنحه للنزهة وطاولة “الدمنة” في المساء ونادراً ما يفتقر مقهى شعبي في المكلا لمثل هذا الطاولات، وأستطيع أن أقول إنني لم أصادف رجلاً غير مثقف في المكلا.

السيدات أولاً: ها هو سوق النساء، محلات محشورة في أزقة تفضي إلى أزقة ولا شيء سوى البخور والعطور والحناء ومستلزمات تجميل وكل ما يؤثث غرفة النوم وما يمت إليها بصلة من الغلالة إلى الملابس الأخرى.

قال بائع البخور وهو يلوح بقطعة لبان مغبرة، وبنبرة متحرشة لم يخش أن تسمعها المتسوقات: “هذا لبان ذكر تعود بعده المرأة التي وضعت ثلاثة توائم للتو عذراء بكراً”.

لماذا تركت المكلا؟!: لا شيء أجمل من البحر إلا بحر المكلا، ولا شيء أجمل من السكنى بالقرب من بحر إلا السكنى بالقرب منه، من قال إن البحار متشابهة والسواحل متشابهة ؟! ولماذا إذن كان هناك بحر أحمر وبحر ميت وبحر أبيض طالما كانت البحار متشابهة ؟! ولماذا تحرص السفن المصرية والهندية على التسلل إلى مياه المكلا الحبلى بالحياة البحرية لتجهضها؟

وشوشني بعض الصيادين بأننا عما قريب سنودع آخر أسماك الغويزي التي تحصل دائماً على عقود “للعمل برع” حيث يصبح القرش قرشين وحيث تعيش بكرامة وحقوق لا تجدها في مياهنا الإقليمية، وأضاف هؤلاء إن عمليات الجرف الحادثة لمواطن الأسماك تحدث أيضاً من قبل بعض الصيادين أنفسهم ولا تقتصر على قراصنة أجانب.




اروع صورة للمكلا


وخلال الفترة الأخيرة انتعشت المنطقة بشكل عام وهو ماجعل السياحة في المرتبة المتقدمة من توجه المكلا خصوصاً وهي تتجه الى مصاف المدن الحديثة وتنافس المصايف الشهيرة.


إنطباعات سياحية
حيث تم الحديث مع عدد من السياح الأجانب في فندق حضرموت السياحي


هنري سائح الماني قال: أنا أحرص على المجيء سنويا الى المكلا وخصوصا فندق حضرموت ومركز الغوص.. أحب صيد الأسماك وخصوصا الأسماك الكبيرة مثل القرش الذي يتواجد على بعد 3 كيلو مترات من الشاطئ، ومن ضمن برنامجي أنا وزوجتي هو أن نقوم بالغوص في قاع البحر الذي يمتاز بجمال فريد وتنوع هائل، واعتقد أن هذا يعود الى انفتاح البحر ووصول الأمواج القادمة صيفا من المحيط المتجمد الجنوبي.
اليمن بلد رائع وتراثه متنوع وغني ولا أتصور نفسي احرم زيارة المكلا وأكل السمك والشروخ اللذيذ.
أما الدكتور آدم وهو أسباني فيقول: حدثني صديق قديم عن اليمن فقد جاء إليها قبل ثلاث سنوات ومن خلال حديثه شوقني لزيارة حضرموت.. وبالأمس وجدت رسالة على الايميل يسألني عن انطباعاتي وهل سأحضر حفل زواج ابنته القريب.. رديت عليه اعتذر عن عدم حضوري الحفل، أما انطباعي فهو جيد فالمكان جميل وسأقضي فيه أسبوعين إضافيين..وأضاف: شمس وبحر وسمك وجو رائع ماذا ينقصني.. اعتادت مدينة المكلا على استقبال السياح الأجانب، فغالبا ما تصل اليخوت الكبيرة لقضاء ساعات في المدينة لتناول الوجبات والتقاط الصور.. يقول الدكتور فضل في الأشهر الثلاثة الماضية وصلت الى المكلا تباعا خمسة يخوت من ضمنها "مارتينا" وهي طبعا يخوت كبيرة جدا تحمل ما يقارب الفي سائح.. وتخيل عندما ينزل 1500 سائح لمدة 12 ساعة لغرض الأكل وشراء التحف والهدايا والتقاط الصور.
أجمل ما في الموضوع هو أن معظم الباعة وأصحاب المطاعم والبهارات وغيرهم من الباعة يحرصون على تقديم أسعارهم المعتادة ولذا تجد السياح يعودون الى اليخوت وهم محملون بأنواع كثيرة من المقتنيات التي تعتبر بالنسبة لهم رخيصة جداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق